لا يجادل أحد في تفوق الغرب و نهضته العلمية، ولا في تخلف أمتنا و عجزها عن مضاهاة أمم أخرى تمكنت من الظفر بأسباب التقدم و المعرفة.. إنها حقيقة مرة و مؤلمة و صادمة، نعترف بها و نقر ليل نهار بوطئها و ثقلها.. لكن تفوق الغرب في ميادين الاقتصاد و الاجتماع و الفكر و العمران و الصناعة و غيرها، لم يفرز لنا سوى ثقافة متكبرة و متعجرفة و مستعلية.
ثقافة تحتقر الشعوب، و تستصغر تراث الأمم، و تنظر بعين الازدراء، إلى كل الحضارات السابقة أو الموازية.. بل و لا تعترف بكفاءتها، و قدرتها على المساهمة – إلى جانبها طبعا - في الارتقاء بالإنسانية.. و نعتقد أن الاستعلاء الثقافي الذي يمارسه الغرب المتفوق، ضد أمتنا، و ضد أمم أخرى مبدعة، كالصين، و ما يسمى بالنمور الأسيوية، و ضد دول لاتينية معروفة بإبائها و ممانعتها، لم يأت من فراغ، أو من رغبة في استعباد هذه الشعوب و الأمم، و إنما تولد بفعل احتكار الغرب المستمر لعملية البناء الحضاري، و صناعة التحولات المختلفة، و تغيير مسارات التاريخ و الجغرافيا.. أي أن الغرب اعتراه السأم و الامتعاض من احتراف أمتنا – و غيرها - لعمليات الاستهلاك و الاتكال و الانتظار و الكسل.. فكانت ردة الفعل بروز نظريات في الاستعلاء الثقافي، و مذاهب شتى في احتقار الثقافات الأخرى و المخالفة..
و الاستعلاء الثقافي اتخذ أشكالا مكشوفة، لا تحتاج منا إلى توضيح أو تبيان، حيث جاء أولا في صورة رفض مطلق و ممنهج لكل ثقافة ذات منسوب متدفق أو شبه متدفق من مياه الإبداع و البناء الإنساني، ثم تحول إلى صورة حصار و مواجهة بفرض عقوبات اقتصادية و تجارية على الدول الممانعة و المقاومة، و ملاحقات قضائية للأشخاص.. ثم انتقل إلى صورة تدخل عسكري، و احتلال للأرض، و إقامة كيانات في شكل دول ( الكيان الصهيوني مثال صارخ و مقلق ) و تنكيل بالشعوب، و تعذيب للأفراد و الجماعات، و بناء معتقلات خارج حكم القانون، لينتهي إلى صورة الذروة المتمثلة في محاربة ما يسمى ب " الإرهاب ".. أي أن الاستعلاء الثقافي، بات اليوم صورة حقيقية للإرهاب و ممارسته فعلا و واقعا، تحت الادعاء بمحاربته..
إن حديثنا عن الاستعلاء الثقافي للغرب المتكبر، لا يمت صلة بما راكمناه من استثمار لتراث الشك في أفعال هذا الغرب و أقواله، و لا بما أبدعناه من فكرة المؤامرة الغربية الأبدية، ضد أمتنا و دينها و حضارتها، و إنما هو حديث تعززه الوثائق و الوقائع و الأحداث الجارية - بالأمس و اليوم - من حولنا و أمامنا و ضدنا..
بل يكفي الرجوع إلى مضامين الاستعلاء و الاستكبار المسطرة بحبر القوة و الافتخار في صفحات آخر كتب أنتجها مثقفو الغرب و مفكروه الاستراتيجيون.. كتاب فرنسيس فوكو ياما " نهاية التاريخ و الانسان الأخير " و كتاب " صدام الحضارات " لصموئيل هنتنغتون، ليلمس عن قرب و بما لا يدع أي مجال للشك، حقيقة معايشة الغرب لنشوة الاستعلاء الثقافي و السياسي، في مواجهته لباقي الثقافات و الحضارات و الشعوب الأخرى.